فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ} تقدّم معناه.
{لِتُخْرِجَ الناس} أي بالكتاب، وهو القرآن، أي بدعائك إليه.
{مِنَ الظلمات إِلَى النور} أي من ظلمات الكفر والضلالة والجهل إلى نور الإيمان والعلم؛ وهذا على التمثيل؛ لأن الكفر بمنزلة الظلمة؛ والإسلام بمنزلة النور.
وقيل: من البدعة إلى السُّنة، ومن الشك إلى اليقين؛ والمعنى متقارب.
{بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} أي بتوفيقه إياهم ولطفه بهم، والباء في {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} متعلقة ب{تخرج} وأضيف الفعل إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأنه الداعي والمنذر الهادي.
{إلى صِرَاطِ العزيز الحميد} هو كقولك: خرجت إلى زيد العاقِل الفاضِل من غير واو، لأنهما شيء واحد؛ والله هو العزيز الذي لا مثل له ولا شبيه.
وقيل: {الْعَزِيز} الذي لا يغلبه غالب.
وقيل: {الْعَزِيزِ} المنيع في ملكه وسلطانه.
{الْحَمِيدِ} أي المحمود بكل لسان، والممجد في كل مكان على كل حال.
وروى مِقْسَم عن ابن عباس قال: كان قوم آمنوا بعيسى ابن مريم، وقوم كفروا به، فلما بُعِث محمد صلى الله عليه وسلم آمن به الذين كفروا بعيسى، وكفر الذين آمنوا بعيسى؛ فنزلت هذه الآية، ذكره الماورديّ.
قوله تعالى: {الله الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض}
أي ملكًا وعبيدًا واختراعا وخلقًا.
وقرأ نافع وابن عامر وغيرهما: {اللَّهُ} بالرفع على الابتداء {الَّذِي} خبره.
وقيل: {الَّذي} صفة، والخبر مضمر؛ أي الله الذي له ما في السموات وما في الأرض قادر على كل شيء.
الباقون بالخفض نعتًا للعزيز الحميد فقدم النعت على المنعوت؛ كقولك: مررت بالظريفِ زيدٍ.
وقيل: على البدل من {الْحَمِيدِ} وليس صفة؛ لأن اسم الله صار كالعلَم فلا يوصف؛ كما لا يوصف بزيد وعمرو، بل يجوز أن يوصف به من حيث المعنى؛ لأن معناه أنه المنفرد بقدرة الإيجاد.
وقال أبو عمرو: والخفض على التقديم والتأخير، مجازه: إلى صراط الله العزيز الحميد الذي له ما في السموات وما في الأرض.
وكان يعقوب إذا وقف على {الْحَمِيدِ} رفع، وإذا وصل خفض على النعت.
قال ابن الأنباري: من خفض وقف على: {وَمَا فِي الأرض}.
قوله تعالى: {وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} قد تقدّم معنى الويل في البقرة وقال الزجاج: هي كلمة تقال للعذاب والهَلَكة.
{مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} أي في جهنم.
{الذين يَسْتَحِبُّونَ الحياة الدنيا} أي يختارونها على الآخرةِ، والكافرون يفعلون ذلك.
ف{الَّذِينَ} في موضع خفض صفة لهم.
وقيل: في موضع رفع خبر ابتداء مضمر؛ أي هم الذين.
وقيل: {الذين يَسْتَحِبُّونَ} مبتدأ وخبره.
{أُولَئِكَ}.
وكل من آثر الدنيا وزهرتها، واستحب البقاء في نعيمها على النعيم في الآخرة، وصدّ عن سبيل الله أي صرف الناس عنه وهو دين الله، الذي جاءت به الرسل، في قول ابن عباس وغيره فهو داخل في هذه الآية؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم: {إنّ أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلّون} وهو حديث صحيح.
وما أكثر ما هم في هذه الأزمان، والله المستعان.
وقيل: {يَسْتَحِبُّونَ} أي يلتمسون الدنيا من غير وجهها؛ لأن نعمة الله لا تلتمس إلا بطاعته دون معصيته.
{وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} أي يطلبون لها زَيْغًا وميلًا لموافقة أهوائهم، وقضاء حاجاتهم وأغراضهم.
والسبيل تذكّر وتؤنّث.
والعِوج بكسر العين في الدّين والأمر والأرض، وفي كل ما لم يكن قائمًا؛ وبفتح العين في كل ما كان قائمًا، كالحائط، والرُّمح ونحوه؛ وقد تقدم في {آل عمران} وغيرها. {أولئك فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ} أي ذهاب عن الحق بعيد عنه. اهـ.

.قال الخازن:

قول القرآن: {الر كتاب أنزلناه إليك}
يعني هذا كتاب أنزلناه إليك يا محمد والكتاب هو القرآن المنزل على محمد-صلى الله عليه وسلم-: {لتخرج الناس من الظلمات الى النور} يعني بهذا القرآن والمراد من الظلمات الكفر والضلالة والجهل، والمراد بالنور: الإيمان.
قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله: وفيه دليل على أن طرق الكفر والبدع كثيرة وطريق الحق ليس إلا واحدًا لأنه تعالى قال: لتخرج الناس من الظلمات إلى النور فعبر عن الجهل والكفر والضلال بالظلمات وهي صيغة جمع وعبر عن الإيمان والهدى بالنور وهو لفظ مفرد وذلك يدل على أن طرق الكفر والجهل كثيرة، وأما طريق العلم والإيمان فليس إلا واحد: {بإذن ربهم} يعني بأمر ربهم وقيل: يعلم ربهم: {إلى صراط العزيز الحميد} يعني إلى دين الإسلام وهو دينه الذي أمر به عباده، والعزيز هو الغالب الذي لا يغلب والحميد المحمود على كل حال المستحق لجميع المحامد: {الله} قرئ بالرفع على الاستئناف وخبره ما بعده وقرئ بالجر نعتًا للعزيز الحميد فقال أبو عمرو قراءة الخفض على التقديم والتأخير تقديره إلى صراط الله العزيز الحميد: {الذي له ما في السموات وما في الأرض} يعني ملكًا وما فيهما عبيده: {وويل للكافرين} يعني الذين تركوا عبادة من يستحق العبادة الذي له ما في السموات وما في الأرض، وعبدوا من لا يملك شيئًا البتة بل هو مملوك لله لأنه من جملة خلق الله، ومن جملة ما في السموات وما في الأرض: {من عذاب شديد} يعني معد لهم في الآخرة ثم وصفهم.
فقال تعالى: {الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة} يعني يختارون الحياة الدنيا ويؤثرونها على الآخرة: {ويصدون عن سبيل الله} أي ويمنعون الناس عن قبول دين الله: {ويبغونها عوجًا} يعني ويطلبون لها زيغًا وميلًا، فحذف الجار وأوصل الفعل.
وقيل: معناه يطلبون سبيل الله حائدين عن القصد وقيل الهاء في ويبغونها راجعة إلى الدنيا ومعناه يطلبون الدنيا على طريق الميل عن الحق والميل إلى الحرام: {أولئك} يعني من هذه صفته: {في ضلال بعيد} يعني عن الحق وقيل يجوز أن يراد في ضلال بعيد ذي بعد أو فيه بعد لأن الضال يبعد عن الطريق. اهـ.

.قال أبو حيان:

{الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)}
هذه السورة مكية كلها في قول الجمهور، وعن ابن عباس وقتادة، هي مكية إلا من قوله: {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرًا} الآية إلى قوله: {إلى النار} وارتباط أول هذه السورة بالسورة قبلها واضح جدًا، لأنه ذكر فيها: {ولو أن قرآنًا} ثم: {وكذلك أنزلناه حكمًا عربيًا} ثم: {ومن عنده علم الكتاب} فناسب هذا قوله: {الر كتاب أنزلناه إليك}.
وأيضًا فإنهم لما قالوا على سبيل الاقتراح: {لولا أنزل عليه آية من ربه} وقيل له: {قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب} أنزل الر كتاب أنزلناه إليك كأنه قيل: أو لم يكفهم من الآيات كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات هي الضلال، إلى النور وهو الهدى.
وجوزوا في إعراب {الر} أن يكون في موضع رفع بالابتداء، وكتاب الخبر، أو في موضع رفع على خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذه الر، وفي موضع نصب على تقدير: الزم أو اقرأ الر.
و{كتاب أنزلناه} إليك جملة مفسرة في هذين الإعرابين، و{كتاب} مبتدأ. وسوغ الابتداء به كونه موصوفًا في التقدير أي: كتاب أي: عظيم أنزلناه إليك. وجوزوا أن يكون {كتاب} خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذا كتاب، و{أنزلناه} جملة في موضع الصفة.
وفي قوله: {أنزلناه}. وإسناد الإنزال إلى نون العظمة ومخاطبته تعالى بقوله: {إليك}، وإسناد الإخراج إليه عليه الصلاة والسلام، تنويه عظيم وتشريف له-صلى الله عليه وسلم- من حيث المشاركة في تحصيل الهداية بإنزاله تعالى، وبإخراجه عليه الصلاة والسلام، إذ هو الداعي والمنذر، وإن كان في الحقيقة مخترع الهداية هو الله تعالى.
و{الناس} عام، إذ هو مبعوث إلى الخلق كلهم، و{الظلمات} و{النور} مستعاران للكفر والإيمان.
ولما ذكر علة إنزال الكتاب وهي قوله: {لتخرج} قال: {بإذن ربهم}، أي: ذلك الإخراج بتسهيل مالكهم الناظر في مصالحهم، إذ هم عبيده، فناسب ذكر الرب هنا تنبيهًا على منة المالك، وكونه ناظرًا في حال عبيدة.
وبإذن ظاهره التعلق بقوله: {لتخرج}.
وجوز أبو البقاء أن يكون {بإذن ربهم} في موضع الحال قال: أي مأذونًا لك.
وقال الزمخشري: {بإذن ربهم} بتسهيله وتيسيره، مستعار من الإذن الذي هو تسهيل الحجاب، وذلك ما يمنحهم من اللطف والتوفيق انتهى.
وفيه دسيسة الاعتزال.
والظاهر أن قوله: {إلى صراط}، بدل من قوله: {إلى النور}، ولا يضر هذا الفصل بين المبدل منه والبدل، لأنّ بإذن معمول للعامل في المبدل منه وهو لتخرج.
وأجاز الزمخشري أن يكون إلى صراط على وجه الاستئناف، كأنه قيل: إلى أي نور، فقيل: إلى صراط العزيز الحميد.
وقرئ: {ليخرج} مضارع خرج بالياء بنقطتين من تحتها، و{الناس} رفع به.
ولما كان قوله: {إلى النور}، فيه إبهام مّا أوضحه بقوله: {إلى صراط}.
ولما تقدم شيئان أحدهما إسناد إنزال هذا الكتاب إليه.
والثاني إخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم، ناسب ذكر هاتين الصفتين صفة العزة المتضمنة للقدرة والغلبة وذلك من حيث إنزال الكتاب، وصفة الحمد المتضمنة استحقاقه الحمد من حيث الإخراج من الظلمات إلى النور، إذ الهداية إلى الإيمان هي النعمة التي يجب على العبد الحمد عليها والشكر.
وتقدمت صفة العزيز، لتقدم ما دل عليها، وتليها صفة الحميد لتلو ما دل عليها.
وقرأ نافع وابن عامر الله بالرفع فقيل: مبتدأ محذوف أي: هو الله.
وهذا الإعراب أمكن لظهور تعلقه بما قبله، وتفلته على التقدير الأول.
وقرأ باقي السبعة والأصمعي عن نافع: {الله} بالجر على البدل في قول ابن عطية، والحوفي، وأبي البقاء.
وعلى عطف البيان في قول الزمخشري قال: لأنه جرى مجرى الأسماء الأعلام لغلبته واختصاصه بالمعبود الذي يحق له العبادة، كما غلب النجم على الثريا انتهى.
وهذا التعليل لا يتم إلا على تقدير: أن يكون أصله الإله، ثم نقلت الحركة إلى لام التعريف وحذفت الهمزة، والتزم فيه النقل والحذف، ومادته إذ ذاك الهمزة واللام والهاء، وقد تقدمت الأقوال في هذا اللفظ في البسملة أول الحمد.
وقال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور: لا تقدم صفة على موصوف إلى حيث سمع وذلك قليل، وللعرب فيما وجد من ذلك وجهان: أحدهما: أن تقدم الصفة وتبقيتها على ما كانت عليه، وفي إعراب مثل هذا وجهان: أحدهما: إعرابه نعتًا مقدمًا، والثاني: أن يجعل ما بعد الصفة بدلًا.
والوجه الثاني: أن تضيف الصفة إلى الموصوف إذا قدمتها انتهى.
فعلى هذا الذي ذكره ابن عصفور يجوز أن يكون العزيز الحميد يعربان صفتين متقدمتين، ويعرب لفظ الله موصوفًا متأخرًا.
ومما جاء فيه تقديم ما لو تأخير لكان صفة، وتأخير ما لو تقدم لكان موصوفًا قول الشاعر:
والمؤمن العائذات الطير يمسحها ** ركبان مكة بين الغيل والسعد

فلو جاء على الكثير لكان التركيب: والمؤمن الطير العائذات، وارتفع {ويل} على الابتداء، و{للكافرين} خبره.
لما تقدم ذكره {الظلمات} دعا بالهلكة على من لم يخرج منها، و{من عذاب شديد} في موضع الصفة لويل.
ولا يضر الفصل والخبر بين الصفة والموصوف، ولا يجوز أن يكون متعلقًا بويل لأنه مصدر ولا يجوز الفصل بين المصدر وما يتعلق به بالخبر.
ويظهر من كلام الزمخشري أنه ليس في موضع الصفة.
قال: فإن قلت: ما وجه اتصال قوله من عذاب شديد بالويل؟ قلت: لأن المعنى أنهم يولون من عذاب شديد ويضجون منه، ويقولون يا ويلاه كقوله: {دعوا هنالك ثبورا} انتهى.
وظاهره يدل على تقديره عامل يتعلق به من عذاب شديد، ويحتمل هذا العذاب أن يكون واقعًا بهم في الدنيا، أو واقعًا بهم في الآخرة.
والاستحباب الإيثار والاختيار، وهو استفعال من المحبة، لأنّ المؤثر للشيء على غيره كأنه يطلب من نفسه يكون أحب إليها وأفضل عندها من الآخر.
ويجوز أن يكون استفعل بمعنى أفعل كاستجاب وأجاب، ولما ضمن معنى الإيثار عدي بعلى.
وجوزوا في إعراب الذين أن يكون مبتدأ خبره أولئك في ضلال بعيد، وأن يكون معطوفًا على الذم، إما خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين، وإما منصوبًا بإضمار فعل تقديره أذم، وأن يكون بدلا، وأن يكون صفة للكافرين.
ونص على هذا الوجه الأخير الحوفي والزمخشري وأبو البقاء، وهو لا يجوز، لأن فيه الفصل بين الصفة والموصوف بأجنبي منهما وهو قوله: من عذاب شديد، سواء كان من عذاب شديد في موضع الصفة لويل، أم متعلقًا بفعل محذوف أي: يضجون ويولولون من عذاب شديد.
ونظيره إذا كان صفة أن تقول: الدار لزيد الحسنة القرشي، فهذا التركيب لا يجوز، لأنك فصلت بين زيد وصفته بأجنبي منهما وهو صفة الدار، والتركيب الفصيح أن تقول: الدار الحسنة لزيد القرشي، أو الدار لزيد القرشي الحسنة وقرأ الحسن: {ويصدون} مضارع أصد، الداخل عليه همزة النقل من صد اللازم صدودًا.
وتقدم الكلام على قوله تعالى: {ويبغونها عوجًا} في آل عمران، وعلى وصف الضلال بالبعد. اهـ.